كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقدَّم الحق سبحانه الأنعامَ على الإنسان في الأكل من الزرع، مع أنها كلها مملوكة للإنسان؛ لأن الأنعام في الغالب ما تأكل من الزرع، وهو ما يزال أخضر لم ينضج بَعْد، ليأكل منه الإنسان، وأيضًا هو سبحانه حين يطعم الأنعام فإنما يطعم مَنْ جعله له فاكهة طعام، وهي الأنعام.
وأشرنْا إلى أن دقَّة البيان القرآني اقتضتْ أنْ تختم هذه الآية المشاهدة بقوله تعالى: {أَفَلاَ يُبْصرُونَ} [السجدة: 27] لأن هذه مسألة تتعلق بالبصر.
ولك أن تقرأ في مثل هذه الدقَّة قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا إلى يَوْم القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتيكُمْ بضيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْم القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتيكُمْ بلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فيه أَفلاَ تُبْصرُونَ} [القصص: 71-72].
فقال في الأولى {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] لأنها تتكلم عن آية الليل، والسمع هو وسيلة الإدراك فيه، وقال في الأخرى {أَفلاَ تُبْصرُونَ} [القصص: 72] لأنها تتكلم عن آية النهار، والبصر هو وسيلة الإدراك في النهار، إذن: نلحظ دقَّة الأداء وإعجازه؛ لأن المتكلم إله ورب، فلابد أنْ تجد كل لفظة في مكانها المناسب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ متى هذا}.
{متى} يُستفهم بها عن الزمان، والاستفهام بها يدل على أنك استبطأت الشيء فاستفهمتَ: متى يحدث؟
الرسول صلى الله عليه وسلم حين بُعث أخبر قومه أنه مُرْسَل إليهم بمنهج من الله، وقد أيده الله بالمعجزات، وأخبرهم بمصير مَن اتبعه ومصير مَنْ خالفه، وأن ربه- عز وجل- ما كان ليرسله إليهم، ثم يُسلْمه أو يتخلى عنه، فهو لابد منتصر عليهم، فهذه سنة الله في أنبيائه ورسله، حيث قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلمَتُنَا لعبَادنَا المرسلين إنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
لذلك قلنا: إذا رأيت موقفًا لم ينتصر فيه المسلمون، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة، فاعلم أن الجندية عندهم قد اختلتْ شروطها، فلم يكونوا في حال الهزيمة جنودًا لله متجردين.
وحين نتأمل الأحداث في أحُد نجد أن الله تعالى يقول للمسلمين: لا تظنوا أن وجود رسول الله بينكم يحميكم أو يُخرجكم عن هذه القضية، فهذه سنة الله في كونه لا تتبدل.
ففي أُحُد خالف المسلمين أوامر رسول الله، حين نزل الرماة وتركوا أماكنهم طمعًا في الغنائم، فالتفَّ عليهم المشركون، وكانت النتيجة لا نقول انهزموا إنما هم لم ينتصروا؛ لأن المعركة ماعت والرسول موجود بينهم.
والبعض يرى في هذه النتيجة التي انتهتْ إليها الحرب في أُحُد مأْخذًا، فيقول: كيف يُهزم جيش يقوده رسول الله؟ وهذه المسألة تُحسَب للرسول لا عليه، فالرسول لن يعيش بينهم دائمًا، ولابد لهم أن يروْا بأعينهم عاقبة مخالفتهم لأمر رسول الله، وأنْ يشعروا بقداسة هذه الأوامر، ولو أنهم انتصروا مع المخالفة لفقدوا الثقة في أوامر رسول الله بعد ذلك، ولمَ لا وقد خالفوه في أُحُد وانتصروا!!.
كذلك في يوم حنين الذي قال الله فيه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْن عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25].
وكان من إعجاب المؤمنين بكثرتهم أن يقول أبو بكر نفسه: لن نُغْلَب اليوم عن قلة، لذلك لقَّنهم الله تعالى درسًا، وكادوا أنْ يُهزموا، لولا أن الله تداركهم في النهاية برحمته، وتحوَّلت كفَّة الحرب لصالحهم، وكأن التأديب جاء على قدر المخالفة.
فالحق سبحانه يُعلّمنا امتثال أمره، وأنْ نخلص في الجندية لله سبحانه، وأن ننضبط فيها لنصل إلى الغاية منها، فإنْ خالفنا حُرمْنا هذه الغاية؛ لأنني لو أعطيتُك الغاية مع المخالفة لما أصبح لحكَمي مكان احترام ولا توقير.
وهنا يحكي الحق- تبارك وتعالى- عن المشركين قولهم لرسول الله: {متى هذا الفتح} [السجدة: 28] أي: النصر الذي وعدكم الله به، وقد كان هذا النصر غاية بعيدة المنال أمام المؤمنين، فما زالوا قلَّة مُستْضعفة.
لذلك لما نزل قول الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] تعجب عمر حتى قال: أيُّ جمع هذا، ونحن لا نستطيع أنْ نحمي أنفسنا؟ لكن الحق سبحانه لم يُطل عليهم هذا الوضع، وسرعان ما جاءتْ بدر، ورأى عمر بعينه كيف تحقَّق وعد الله، وكيف هُزم جَمْع المشركين، ورددها بنفسه بعد المعركة: نعم يا رب، سَيُهزم الجمع ويولون الدبر.
ومن العجيب أنْ يدل رسول الله على الكفار وعلى أصحابه وأنصاره بفيض الله عليه، وأنه أخبره بنتيجة المعركة قبل حدوثها، فيقف صلى الله عليه وسلم في أرض بدر، ويشير بعصا في يده إلى مصارع المشركين: هذا مصرع أبي جهل، وهذا مصرع عتبة، وهذا مصرع الوليد. إلخ.
فمَنْ يستطيع أنْ يحدد نتيجة معركة بهذا التفصيل، والمعركة أَخْذٌ وردّ وكرّ وفرّ واختلاط، مع أنهم لم يخرجوا لحرب، إنما خرجوا لملاقاة قافلة قريش التجارية، فما بالك لو خرجوا على حال استعداد للحرب، وهذه سيأخذها الكفار قياسًا يقيسون عليه قوة المسلمين الوليدة، وسيقذف الله بهذه النتيجة الرعب في قلوب الكفار، ولم لا وقد انتصرتْ القلة المستضعفة غير المجهزة علة الكثرة المتعجرفة المستعدة للحرب.
والاستفهام هنا {متى هذا الفتح} [السجدة: 28] ليس استفهامًا على حقيقته، إنما يراد به الاستهزاء والسخرية، وجواب الله على هذا الاستفهام يحدد نيتهم منه، فهم يستبعدون هذا النصر وهذه الغلبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين، لكنهم يستبعدون قريبًا، ويستعلجون أمرًا آتيًا لا ريب فيه.
وقد سجَّل القرآن عليهم مثل هذا الموقف في قوله تعالى حكاية عن الكفار يقولون لرسولهم: {فَأْتنَا بمَا تَعدُنَآ إن كُنتَ منَ الصادقين} [الأعراف: 70].
كلمة {الفتح} إنْ جاءت مُعرَّفة بأل فخيرها مضمون، فاعلم أنها نعمة محروسة لك سينالك نفعها، فإنْ جاءت نكرة فلابد لها من متعلق يوضح الغاية منها: أهذا الفتح لك أم عليك؛ فقوله تعالى في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبينًا} [الفتح: 1] دلَّ على أن هذا الفتح لصالحه صلى الله عليه وسلم، فهو غُنْم لا غُرْم، كما يقولون في حسابات البنوك: له وعليه.
أما الأخرى، ففي قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا به فَتَحْنَا عَلَيْهمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44].
إذن: تنبَّه لما يفتحه الله عليك؛ ولا تغتَرَّ به، وتأمَّل: أهو لك أم عليك؟ وإياك أنْ تُطغيك النعمة إذا زهزهتْ لك الدنيا، فلعلها استدراج وأنت لا تدري، فالفتح يحتمل المعنيين، واقرأ إنْ شئتَ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُوا واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السماء والأرض} [الأعراف: 96] أي: احذروا هذه النعمة لا تطغيكم.
وكلمة {الفتح} تأتي بمعانٍ متعددة، يحددها السياق، كما قلنا في كلمة العين، فتأتي بمعنى العين الباصرة. تقول: رأيت فلانًا بعيني، وتقول: جُدْت على فلان بعيْن مني أي: بالذهب أو الفضة، وتقول: سمحتُ له أنْ يروي أرضه من عيني أي: عين الماء، وتقول: هؤلاء عيون فلان أي: جواسيسه.
وهذا يسمونه: المشترك اللفظي.
وكلمة {الفتح} تستخدم أولًا في الأمر المادي، تقول: فتحتُ الباب أي: أزلت مغاليقه، وهذا هو الأصل في معنى الفتح. فالحق سبحانه يقول في قصة سيدنا يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إلَيْهمْ} [يوسف: 65] ففتحوا متاعهم الفتح المادي الذي يزيل عنه الأربطة.
وقد يُراد الفتح المعنوي، كما في قول الله تعالى: {وَإذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدّثُونَهُم بمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ ليُحَآجُّوكُم به عنْدَ رَبّكُمْ} [البقرة: 76] أي: بما أعطاكم الله ومنحكم من الخير ومن العلم.
ويأتي الفتح بمعنى إظهار الحق في الحكم بين حق وباطل وتجلية الأمر فيه؛ لذلك يسمى أهلُ اليمن القاضي الفاتح.
ويأتي بمعنى النصر والغلبة، كما في هذه الآية التي معنا: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إن كُنتُمْ صَادقينَ} [السجدة: 28] ولابد أنْ يقول المؤمنون في إجابة هذا السؤال: نحن لا نقول أننا صادقون أو كاذبون في هذا الخبر؛ لأن هذه مسألة بعيدة عنا، ولا دخْلَ لنا بها، إنما هي من الله الذي أخبرنا هذا الخبر، فنحن لا نُوصَف فيه، لا بصدق ولا بكذب.
ولكي يكون الإنسان عادلًا ينبغي أنْ ينسب الفعل إلى فاعله، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر قومه خبر إسرائه قال: «لقد أُسْري بي الليلة من مكة إلى بيت المقدس» ولم يقل سريت ومع ذلك سأله القوم: أتدَّعى أنك أتيتها في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا؟ وهذه مغالطة منهم، لا عدم فهم لمقالة رسول الله؛ لأنهم أمة كلام، ويفهمون جيدًا معاني الألفاظ.
إذن: رسول الله ما سَرَى بذاته، إنما أَسْرى الله به، فمَنْ أراد أن يبحث هذه المسألة فليبحثها في ضوء قدرة الله، وكيف يكون الزمن بالنسبة لله تعالى، وقلنا: إن الفعل الذي يستغرق زمنًا هو الفعل العلاجي، إنما ربنا- تبارك وتعالى- لا يعالج الأفعال، فقط يقول كُنْ فيكون، والفعل يتناسب مع زمنه تناسبًا عكسيًا، فكلما زادت قوة الفاعل قَلَّ زمن الفعل. وعليه لو نسبتَ حادثة الإسراء إلى قوة الحق تبارك وتعالى لوجدتَ الزمن لا زمن.
ثم يجيب الحق تبارك وتعالى عن سؤالهم {متى هذا الفتح} [السجدة: 28] بما يفيد أنه سؤال استبعاد واستهزاء، فيقول سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الفتح}.
أي: لمَ تسألون عن يوم الفتح؟ وماذا ينفعكم العلم به؟ إن يوم الفتح إذا جاء أُسْدل الستار على جرائمكم، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن يُنْظرَكم الله إلى وقت آخر.
ومعلوم أن الإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كانت لديه فُسْحة من الوقت، أما الإيمان الذي يأتي في النزع الأخير، وإذا بلغت الروح الحلقوم فهو كإيمان فرعون الذي قال حين أدركه الغرق: {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الذي آمَنَتْ به بنوا إسْرَائيلَ وَأَنَا منَ المسلمين} [يونس: 90] فردَّ الله عليه هذا الإيمان {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ منَ المفسدين} [يونس: 91].
الآن لا ينفع منك إيمان؛ لأنك مُقْبل على الله، وقد فات أوان العمل، وحَلَّ أوان الحساب، الإيمان أنْ تؤمن وأنت حريص صحيح تستقبل الحياة وتحبها، الإيمان أن تؤمن عن طواعية.
{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [السجدة: 29] أي: ليس لكم الآن إمهال؛ لأن الذي خلقكم يعلم سرائركم، ويعلم أنه سبحانه لو أمهلكم لَعُدْتم لما كنتم عليه {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذبُونَ} [الأنعام: 28].
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَعْرضْ عَنْهُمْ وانتظر}.
هذا المعنى كما نقول في العامية اديني عرض كتافك أي: انصرف عنهم، فلم يَعُدْ بينك وبينهم لقاءٌ، ولا جدوى من مناقشتهم والتناظر معهم فقد استنفدوا كل وسائل الإقناع، ولم يَبْقَ لهم إلا السيف يردعهم، على حَدّ قول الشاعر:
أنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْن عَقّبْ بعدَها وَعيدًا ** فَإنْ لَمْ يُغْن أَغَنَتْ عَزَائمهُ

فقد بلَّغهم رسول الله وأنذرهم، لقد بشَّرهم بالجنة لمن آمن، وحذرهم النار لمن كفر فلم يسمعوا. إذن:
فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أو حَدّ مُرْهَف

فالعاقل الوحي يقنعه، والجاهل السيف يردعه.
وقوله سبحانه: {وانتظر} [السجدة: 30] أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، أي: انتظر وعدي لك بالنصر والغلبة، وقلنا: إن وعد الله محقق، حيث لا توجد قوة أخرى تمنعه من إنفاذ وعده، أما الإنسان فعليه حين يَعد أنْ يتنبه إلى بشريته، وأنه لا يملك شيئًا من أسباب تنفيذ ما وعد به.
لذلك يُعلّمنا ربنا: {وَلاَ تَقْولَنَّ لشَيْءٍ إنّي فَاعلٌ ذلك غَدًا إلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 24] وتعليق أمرك على مشيئة الله عز وجل يحميك أن تكون كاذبًا إذا لم تَف بما وعدتَ به، فأسباب الوفاء بالوعد لا يملكها البشر، إنما يملكها خالق البشر سبحانه، فإذا وعد فاعلم أن وعده متحقق لا محالة.
وقلنا: إنك حين تقول لصاحبك مثلًا: سأقابلك غدًا أو سأفعل لك كذا وكذا، نعم أنت صادق وتنوي الوفاء، لكنك لا تملك في الغد سببًا واحدًا من أسباب الوفاء، فلربما طرأ لك طارئ، أو منعك مانع، وربما تغيَّر رأيك. إلخ.
وفَرْق بين انتظار رسول الله حين ينفذ أمر ربه {وانتظر} [السجدة: 30] وبين {إنَّهُمْ مُّنتَظرُونَ} [السجدة: 30] فانتظار رسول الله لشيء محقق، له رصيد من القوة والقدرة، أما انتظارهم فتسويل نفس ووسوسة شيطان، لا رصيد لها من قوة وإنقاذ.
ومعنى {إنَّهُمْ مُّنتَظرُونَ} [السجدة: 31] أي: ينتظرون أن يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يمنعه من تبليغ رسالة ربه، وهذا حمق منهم، فقد كان عليهم أن يعلموا أن الرسول مُؤيَّد من الله مُرْسَل من قبَله لهدايتهم، وما كان الله تعالى ليرسل رسولًا ثم يُسْلمه أو يخذله، فسنة الله في الرسل أن لهم الغلبة مهما قويتْ شوكة المعاندين لهم.
إذن: لا سبيلَ إلى ذلك، ولا سبيلَ أيضًا إلى الخلاص منه أو حتى تخويفه ليرتدع، ويدع ما يدعو إليه من منهج ربه.
وقد ورد هذا الانتظار في موضع آخر بلفظ التربص في قوله تعالى: {تَرَبَّصُوا فَإنّي مَعَكُمْ مّنَ المتربصين} [الطور: 31].
وفي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بنَآ إلاَّ إحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] أي: ماذا تنتظرون منا ونحن أمام حُسْنيين: إما النصر والغلبة عليكم، وساعتها ندحركم ونُذلكم. أو الشهادة التي تضمن لنا حياة النعيم الباقية الخالدة.
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بكُمْ أَن يُصيبَكُمُ الله بعَذَابٍ مّنْ عنده أَوْ بأَيْدينَا فتربصوا} [التوبة: 52].
يعني: تربَّصوا بنا، فنحن أيضًا نتربص بكم، لكن فَرْق بين تربُّصنا وتربُّصكم.
وهذه السورة سميت السجدة أولًا: لأن بها سجدة تلاوة ينبغي أن نسجد الله شكرًا عندها، والسجود يمثل منتهى الخضوع للحق- تبارك وتعالى- فإذا جاءت هذه الآية التي تهز كيان الإنسان يعلمنا ربنا أن ننفعل لهزَّة الكيان، وأن نسارع بالسجود، ولا ننتظر سجودنا بعد ذلك في الصلاة.
فكأن في هذه الآية آمرًا قويًا وسرًا عظيمًا استدعى أنْ نُخرج السجود عن موقعه بأمر مَنْ شرع السجود الأول. إذن: لابد أن في آيات سجود التلاوة طاقاتٍ جميلة من نعَم الله تُذكّرني به.
والحق سبحانه يريد أنْ يشعر الخَلْق أنهم يستقبلون نعمًا جديدة، لا يكفي في شكرها السجود الرتيب الذي نعرفه، فيشرع لها سجودًا خاصًا بها.
وفي السورة أيضًا بعض الإشارات التي وقف عليها العارفون وقالوا: إنها تضع نماذج لصيانة النفس الإنسانية، وعدم بُعْدها عن حكمة خالقها، ومن هذه الإشارات أن العين ترى الأشياء فتقول: هذا حسن، وهذا قبيح، ذلك من مجرد الشكل الخارجي، لكن على المرء أنْ يتأمل الأشياء ويعرف معنى القبح.
القبح ليس ما قَبُحَ في نظرك، إنما القبيح الذي يُخرج الحُسْن التكليفي عن مناطه؛ لأن الخالق- عز وجل- خلق كل شيء جميلًا، كما قال سبحانه: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].
فإذا قَبُحَ الشيء في نظرك فاعلم أنك نظرتَ إلى جانب الشكل، وأهملتَ جوانب أخرى، وقُلْ إنني لم أتوصل إلى سرّ الجمال فيه.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الخالق سبحانه نثر المواهب بين خَلْقه بحيث تجد مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان، فلا تنظر إلى جانب واحد فتقول: هذا غني، وهذا فقير، لكن انظر إلى الجوانب الأخرى.
ويُرْوَى أن سيدنا نوحًا عليه السلام رأى كلبًا أجرب فبصق عليه، فأنطق الله الكلب الأجرب، وقال له: أتعيبني أم تعيب خالقي؟ والمعنى أنه خلقني لحكمة، ولمعنى من المعاني.
وصدق القائل:
للقُبْح وَقْتٌ فيه يَظْهر حُسْنُه ** وَيُحمد مَنْ غشَّ البناءَ لَدَى الهَدْم

كذلك نثر الحق سبحانه حكمه، ونثر خيره في كتابه، فلا تغنى آية عن آية، ولا تغني كلمة عن كلمة، ولا حرف عن حرف، لكن البصائر التي تَتلَقَّى عن الله هي التي تستطيع أنْ تقف على أسرار الله. اهـ.